فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {ويْلٌ للمطفّفين}
قال ابن عباس: كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلاً، إلى أن أنزل الله تعالى: {ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل، قال الفراء: فهم من أوفى الناس كيلاً إلى يومهم هذا.
أعمض بعض المتعمقة فحمله على استيفاء العبادة بين الناس جهراً، وفي النقصان سراً.
وفي {ويل} سبعة أقاويل:
أحدها: أنه واد في جهنم، رواه أبو سعيد الخدري مرفوعاً.
الثاني: صديد أهل النار، قاله ابن مسعود.
الثالث: أنه النار، قاله عمر مولى عفرة.
الرابع: أنه الهلاك، قاله بعض أهل اللغة.
الخامس: أنه أشق العذاب.
السادس: أنه النداء بالخسار والهلاك، وقد تستعمله العرب في الحرب والسلب.
السابع: أن أصله ويْ لفلان، أي الجور لفلان، ثم كثر استعمال الحرفين فوصلا بلام الإضافة.
والمطفف: مأخوذ من الطفيف وهو القليل، والمطفف هو المقلل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن.
قال الزجاج: بل مأخوذ من طف الشيء وهي جهته.
{الذين إذا اكْتالوا على الناسِ يستوفون} أي من الناس، ويريد بالاستيفاء الزيادة على ما استحق.
{وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} يعني كالوا لهم أو وزنوا لهم بحذف هذه الكلمة لما في الكلام من الدلالة عليها، {يخسرون}، ينقصون فكان المطفف يأخذ زائداً ويعطي ناقصاً.
{يوم يَقُومُ الناسُ لربِّ العَالَمِينَ} فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: يوم يقومون من قبورهم، قاله ابن جبير.
الثاني: يقومون بين يديه تعالى للقضاء، قاله يزيد بن الرشك.
قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير الغفاري: «كيف أنت صانع يوم يقوم الناس فيه مقدار ثلاثمائة سنة لرب العالمين، لا يأتيهم فيه خبر ولا يؤمر فيه بأمر،» قال بشير: المستعان الله.
الثالث: أنه جبريل يقوم لرب العالمين، قاله ابن جبير.
ويحتمل رابعاً: يقومون لرب العالمين في الآخرة بحقوق عباده في الدنيا.
{كلاّ إنّ كتاب الفُجّارِ لفي سجين} أما {كلا} ففيه وجهان:
أحدهما: حقًّا.
الثاني: أن كلا للزجر والتنبيه.
وأما {سجين} ففيه ثمانية أقاويل:
أحدها: في سفال، قاله الحسن.
الثاني: في خسار، قاله عكرمة.
الثالث: تحت الأرض السابعة، رواه البراء بن عازب مرفوعاً.
قال ابن أسلم: سجين: الأرض السافلة، وسجّيل: سماء الدنيا.
قال مجاهد: سجين صخرة في الأرض السابعة، فيجعل كتاب الفجار تحتها.
الرابع: هو جب في جهنم، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الفلق جُبٌّ في جهنم مغطّى، وسجين جب في جهنم مفتوح».
الخامس: أنه تحت خد إبليس، قاله كعب الأحبار.
السادس: أنه حجر أسود تحت الأرض تكتب فيه أرواح الكفار، حكاه يحيى بن سلام.
السابع: أنه الشديد قاله أبو عبيدة وأنشد:
ضرباً تَواصَتْ به الأبطالُ سجينا

الثامن: أنه السجن، وهو فِعّيل من سجنته، وفيه مبالغة، قاله الأخفش على بن عيسى، ولا يمتنع أن يكون هو الأصل واختلاف التأويلات في محله.
ويحتمل تاسعاً: لأنه يحل من الإعراض عنه والإبعاد له محل الزجر والهوان {كتاب مرقوم} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: مكتوب، قاله أبو مالك.
الثاني: أنه مختوم، وهو قول الضحاك.
الثالث: رُقِم له بَشَرٌ لا يزاد فيهم أحد، ولا ينقص منهم أحد، قاله محمد بن كعب وقتادة.
ويحتمل قولاً رابعاً، إن المرقوم المعلوم.
{كلاّ بل رانَ على قُلوبِهم ما كانوا يَكْسبونَ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: أن {ران}: طبع على قلوبهم، قاله الكلبي.
الثاني: غلب على قلوبهم، قاله ابن زيد، ومنه قول الشاعر:
وكم ران من ذنْب على قلب فاجر ** فتاب من الذنب الذي ران وانجلى

الثالث: ورود الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، قاله الحسن.
الرابع: أنه كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق، وهذا قول الزجاج.
{كلاّ إنّ كتاب الأبرارِ لفِي علّيِّينَ} فيه خمسة أقاويل:
أحدها: أن عليين الجنة، قاله ابن عباس.
الثاني: السماء السابعة، قاله ابن زيد، قال قتادة: وفيها أرواح المؤمنين.
الثالث: قائمة العرش اليمنى، قاله كعب.
الرابع: يعني في علو وصعود إلى الله تعالى، قاله الحسن.
الخامس: سدرة المنتهى، قاله الضحاك.
ويحتمل سادساً: أن يصفه بذلك لأنه يحل من القبول محلاً عالياً.
{تَعْرِفُ في وُجوههم نَضْرَةَ النّعيم} فيها ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنها الطراوة والغضارة، قاله ابن شجرة.
الثاني: أنها البياض، قاله الضحاك.
الثالث: أنها عين في الجنة يتوضؤون منها ويغتسلون فتجري عليهم نضرة النعيم، قاله على.
ويحتمل رابعاً: أنها استمرار البشرى بدوام النعمة.
{يُسقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} وفي الرحيق ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه عين في الجنة مشوب بمسك، قاله الحسن.
الثاني: أنه شراب أبيض يختمون به شرابهم، قاله ابن أبي الدرداء.
الثالث: أنه الخمر في قول الجمهور، ومنه قول حسان:
يسقون من ورد البريص عليهم ** بَرَدَى يُصَفِّق بالرحيق السّلْسَلِ

لكن اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقاويل:
أحدها: أنها الصافية، حكاه ابن عيسى.
الثاني: أنها أصفى الخمر وأجوده، قاله الخليل.
الثالث: أنها الخالصة من غش، حكاه الأخفش.
الرابع: أنها العتيقة.
وفي {مختوم} ثلاثة أقاويل:
أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود.
الثاني: مختوم في الإناء بالختم، وهو الظاهر.
الثالث: ما روى أُبيّ بن كعب، قال: قيل يا رسول الله ما الرحيق المختوم؟ قال: «غُدران الخمر».
{ختامه مسك} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: مزاجه مسك، قاله مجاهد.
الثاني: عاقبته مسك، ويكون ختامه آخره، كما قال الشاعر:
صرف ترقرق في الحانوت باطنه ** بالفلفل الجون والرمان مختوما

قال قتادة: يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك.
الثالث: أن طعمه وريحه مسك، رواه ابن أبي نجيح.
الرابع: أن ختمه الذي ختم به إناؤه مسك، قاله ابن عباس.
{وفي ذلك فلْيَتنافَسِ المُتنافِسونَ} فيه وجهان:
أحدهما: فليعمل العاملون، قاله مجاهد.
الثاني: فليبادر المبادرون، قاله أبو بكر بن عياش والكلبي.
وفيما أخذ منه التنافس والمنافسة وجهان:
أحدهمأ: أنه مأخوذ من الشيء النفيس، قاله ابن جرير.
الثاني: أنه مأخوذ من الرغبة فيما تميل النفوس إليه، قاله المفضل.
{ومِزاجُهُ مِن تَسْنيمٍ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها أن التسنيم الماء، قاله الضحاك.
الثاني: أنها عين في الجنة، فيشربها المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين، قاله ابن مسعود.
وقال حذيفة بن اليمان: تسنيم عين في عدْن، وعدْن دار الرحمن وأهل عدْن جيرانه.
الثالث: أنها خفايا أخفاها الله لأهل الجنة، ليس لها شبه في الدنيا ولا يعرف مثلها.
وأصل التسنيم في اللغة أنها عين ماء تجري من علو إلى سفل، ومنه سنام البعير لعلوه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور.
ويحتمل تأويلاً رابعاً: أن يكون المراد به لذة شربها في الآخرة أكثر من لذته في الدنيا، لأن مزاج الخمر يلذ طعمها، فصار مزاجها في الآخرة بفضل لذة مزاجها من تسنيم لعلو الآخرة على الدنيا.
{وإذا انقلبوا إلى أهْلِهم انقلبوا فكهين} قرأ عاصم في رواية حفص {فكهين} بغير ألف وقرأ غيره بألف، وفي القراءتين أربعة تأويلات:
أحدها: فرحين، قاله السدي.
الثاني: معجبين، قاله ابن عباس، ومنه قول الشاعر:
وقد فكهت من الدنيا فقاتلوا ** يوم الخميس بِلا سلاح ظاهر

الثالث: لاهين.
الرابع: ناعمين، حكى هذين التأويلين على بن عيس.
وروى عوف عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال ربكم عز وجل: وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمني في الدنيا أخفته يوم القيامة».
{هل ثوِّب الكفارُ ما كانوا يَفْعَلونَ} هذا سؤال المؤمنين في الجنة عن الكفار حين فارقوهم، وفيه تأويلان:
أحدهما: معناه هل أثيب الكفار ما كانوا يعلمون في الكفر، قاله قتادة.
الثاني: هل جوزي الكفار على ما كانوا يفعلون، قاله مجاهد.
فيكون {ثُوِّب} مأخوذاً من إعطاء الثواب.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً: أن يكون معناه هل رجع الكفار في الآخرة عن تكذيبهم في الدنيا علي وجه التوبيخ، ويكون مأخوذاً من المثابِ الذي هو الرجوع، لا من الثواب الذي هو الجزاء، كما قال تعالى: {وإذا جعَلْنا البيتَ مثابةً للناس} أي مرجعاً.
ويحتمل تأويلاً رابعاً: هل رجع من عذاب الكفار على ما كانوا يفعلون، لأنهم قد علموا أنهم عذبوا، وجاز أن يظنوا في كرم الله أنهم قد رحموا. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ويل للمطففين}
قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: {ويل للمطففين} فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وقال السدي: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما، ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية.
وقد شرحنا معنى (الويل) في [البقرة: 79].
وقال ابن قتيبة: المطفف: الذي لا يوفي الكيل، يقال: إناء طَفَّانُ: إذا لم يكن مملوءاً.
وقال الزجاج: إنما قيل: مطفِّف، لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا الشيء الطفيف، وإنما أخذ من طَفَّ الشيء، وهو جانبه.
قوله تعالى: {الذين إذا اكتالوا على الناس} أي: من الناس.
ف {على} بمعنى (من) في قول المفسرين واللغويين.
قال الفراء: {على}، و(من) يعتقبان في هذا الموضع، لأنك إذا قلت: اكتلت عليك، فكأنك قلت: أخذت ما عليك، كيلاً، وإذا قلت: اكتلت منك، فهو كقولك: استوفيت منك.
كيلاً.
قال الزجاج: المعنى: إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتَّزنوا، ولم يذكر (إذا اتَّزنوا)، لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يُكَال ويُوزَن، فأحدهما يدل على الآخر {وإذا كالوهم} أي: كالوا لهم {أو وزنوهم} أي: وزنوا لهم {يخسرون} أي: ينقصون في الكيل، والوزن.
فعلى هذا لا يجوز أن يقف على {كالوا} ومِنَ الناس من يجعل {هُمْ} توكيداً لما كالوا، ويجوز أن يقف على {كالوا} والاختيار الأول.
قال الفراء: سمعت أعرابية تقول: إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكليلنا المدَّ والمدِّين إلى الموسم المقبل.
قوله تعالى: {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون!} قال الزجاج: المعنى: لو ظنوا أنهم يُبْعَثُون ما نقصوا في الكيل والوزن {ليوم عظيم} يعني به يوم القيامة {يوم يقوم الناس} منصوب بقوله تعالى: {مبعوثون}.
قال المفسرون: والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين.
ومعنى: يقوم الناس، أي: من قبورهم {لرب العالمين} أي: لأمره، أو لجزائه وحسابه، وقيل: يقومون بين يديه لفصل القضاء.
وفي (الصحيحين) من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: «يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى أنصاف أذنيه» وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عام.
قال مقاتل: وذلك إذا خرجوا من قبورهم.
قوله تعالى: {كلا} ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا.
وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء.
وكان أبو حاتم يقول: {كلا} ابتداء يتصل بما بعده على معنى (حقًّا) {إن كتاب الفجار} قال مقاتل: إن كتاب أعمالهم {لفي سجين}.
وفيها أربعة أقوال:
أحدها: أنها الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل.
وروي عن مجاهد قال: {سجين} صخرة تحت الأرض السابعة، يجعل كتاب الفجار تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة منزلتهم.
والثاني: أن المعنى إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن.
والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة.
والرابع: لفي حبس، فعِّيل من السجن، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: {وما أدراك ما سجين} هذا تعظيم لأمرها.
وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
قوله تعالى: {كتاب مرقوم} أي: ذلك الكتاب الذي في سجين كتاب مرقوم، أي: مكتوب.
قال ابن قتيبة: والرقم: الكتاب، قال أبو ذؤيب:
عَرَفْتُ الدِّيَارَ كَرَقْمِ الدَّوَا ** ةِ يَزْبُرُه الكَاتِبُ الحِمْيَرِيُّ

وأنشده الزجاج: (يَذْبِرها) بالذال المعجمة، وكسر الباء.
قال الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ.
وروى أبو عمرو عن ثعلب، عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت بالزاي كتبت.
وذبرت بالذال أتقنت ما حفظت.
قال: والبيت يزبرها، بالزاي والضم.
وقال ابن قتيبة: يروى (يزبرُها) و(يذبرُها) وهو مثله، يقال: زبر الكتاب يزبرُه، ويزبرِه.
وذَبره يذبرُه، ويذبِره.
وقال قتادة: رقّم له بشرٍّ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر.
وقيل: المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به.
قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} هذا منتظم بقوله تعالى: {يوم يقوم الناس} وما بينهما كلام معترض.
وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله تعالى: {بل ران على قلوبهم} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر {بل ران} بفتح الراء مدغمة.
وقرأ أبو بكر عن عاصم {بل ران} مدغمة بكسر الراء.
وقرأ حفص عن عاصم {بل} بإظهار اللام {ران} بفتح الراء.
قال اللغويون: أي: غلب على قلوبهم، يقال: الخمرة ترين على عقل السكران.
قال الزجاج: قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى.
ويقال: ران على قلبه الذَّنْب يرين ريناً: إذا غشي على قلبه، ويقال: غان يغين غنياً، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدأ يغشى على القلب.
وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن {كلا بل ران} وفي الحديث: «إنه ليغان على قلبي» وكذلك الراية تقال بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب بالغين، وبالراء، لأن الرمص يكتب بهما.
قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم أحاطت بقلوبهم.
قال الحسن: هو الذَّنب على الذَّنب حتى يعمى القلب.
قوله تعالى: {كلا} أي: لا يصدِّقون.
ثم استأنف {إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن لا يحجب عن رؤيته.
وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم يَرَوْه تجلَّى لأوليائه حتى رأوه.
وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسُّخْطِ دل على أن قوماً يَرَوْنه بالرضى.
وقال الزجاج: في هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يُرى في القيامة.
ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسَّت منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن ربهم.
ثم من بعد حجبهم عن الله يدخلون النار، فذلك قوله تعالى: {ثم إنهم لصالوا الجحيم}.
قوله تعالى: {ثم يقال} أي: يقول لهم خزنة النار: {هذا} العذاب {الذي كنتم به تكذبون كلا} أي: لا يؤمن بالعذاب الذي يصلاه.
ثم أعلم أين محل {كتاب الأبرار} فقال تعالى: {لفي عليِّين}.
وفيها سبعة أقوال.
أحدها: أنها الجنة، رواه عطاء عن ابن عباس.
والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضاً.
والثالث: أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو مذهب مجاهد، وابن زيد.
والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، قاله قتادة.
وقال مقاتل: ساق العرش.
والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك.
والسادس: أنه في علو وصعود إلى الله عز وجل، قاله الحسن.
وقال الفراء: في ارتفاع بعد ارتفاع.
والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: {وما أدراك ما عليُّون} هذا تعظيم لشأنها.
قوله تعالى: {كتاب مرقوم} الكلام فيه كالكلام في الآية التي قبلها.
قوله تعالى: {يشهده المقربون} أي: يحضر المقرَّبون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به إلى عليين.
وما بعد هذا قد سبق بيانه [الانفطار: 13] إلى قوله تعالى: {ينظرون}.
وفيه قولان.
أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
والثاني: إلى أعدائهم حين يعذَّبون.
قوله تعالى: {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} وقرأ أبو جعفر، ويعقوب، {تُعرَف} بضم التاء، وفتح الراء {نضرةُ} بالرفع.
قال الفراء: بريق النعيم ونداه، قال المفسرون: إذا رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور.
وفي (الرحيق) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور.
ثم اختلفوا أي الخمر هي على أربعة أقوال.
أحدها: أجود الخمر، قاله الخليل بن أحمد.
والثانية: الخالصة من الغش، قاله الأخفش.
والثالث: الخمر البيضاء، قاله مقاتل.
والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة.
والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن.
والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة، والزجاج.
وفي قوله تعالى: {مختوم} ثلاثة أقوال.
أحدها: ممزوج، قاله ابن مسعود.
والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد.
والثالث: له ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله تعالى: {ختامه مسك}، أي: عاقبته.
هذا قول أبي عبيدة.
{ختامه مسك} قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة {ختامه} بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف بعدهما، مرفوعه الميم.
وقرأ الكسائي {خاتمه} بخاء مفتوحة، بعدها ألف، وبعدها تاء مفتوحة.
وروى الشيزري {خاتمه} مثل ذلك، إلا أنه يكسر التاء.
وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعروة، وأبو العالية: {خَتَمه} بفتح الخاء والتاء وبضم الميم من غير ألف.
وللمفسرين في قوله تعالى: {ختامه مسك} أربعة أقوال.
أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد.
والثاني: أن ختمه الذي يختم به الإناء مسك، قاله ابن عباس.
والثالث: أن طعمه وريحه مسك، قاله علقمة.
والرابع: أن آخر طعمه مسك قاله سعيد بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين.
قوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} أي: فليجدُّوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله.
والتنافس: كالتشاحّ على الشيء، والتنازع فيه.
قوله تعالى: {ومزاجه من تسنيم} فيه قولان.
أحدهما: أنه اسم عين في الجنة يشربها المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين.
والثاني: أن التسنيم الماء، قاله الضحاك.
قال مقاتل: وإنما سمي تسنيماً، لأنه يتسنّم عليه من جنة عدن، فينصب عليهم انصباباً، فيشربون الخمر من ذلك الماء.
قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع شراب في الجنة.
ويقال: إنه يمتزج بماءٍ ينزل من تسنيم، أي: من علو.
وأصل هذا من سنام البعير، ومن تسنيم القبور.
وهذا أعجب إلى، لقول المسيَّب بن عَلَس في وصف امرأة:
كَأَنَّ بِرِيقَتِها لِلْمِزَا جِ مِنْ ** ثَلْجِ تَسْنِيمَ شِيْبَتْ عُقَاراً

أراد كأن بريقتها عُقَاراً شِيْبَتْ للمزاج من ثلج تسنيم، يريد: جبلاً.
قال الزجاج: المعنى: ومزاجه من تسنيم عيناً تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يَتَسَنَّم عليهم من الغرف.
ف {عيناً} في هذا القول منصوبة، كما قال تعالى: {أو إطعامٌ في يوم ذي مَسْغَبَة يتيماً} [البلد: 15] ويجوز أن تكون {عيناً} منصوبة بقوله: يُسْقَوْن عيناً، أي: من عين.
وقد بينا معنى {يشرب بها} في [هل أتى: 6].
قوله تعالى: {إن الذين أجرموا} أي: أشركوا {كانوا من الذين آمنوا} يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل عمَّار، وبلال، وخبَّاب وغيرهم {يضحكون} على وجه الإستهزاء بهم {وإذا مرُّوا} يعني: المؤمنين {بهم} أي: بالكفار {يتغامزون} أي: يشيرون بالجفن والحاجب استهزاءً بهم {وإذا انقلبوا} يعني الكُفار {إلى أهلهم انقلبوا فكهين} أي: متعجِّبين بما هم فيه يتفكَّهون بذكرهم.
وقرأ أبو جعفر، وحفص عن عاصم، وعبد الرزاق عن ابن عامر {فكهين} بغير ألف.
وقد شرحنا معنى القراءتين في [يس: 55] {وإذا رأَوْهم} أي: رأَوْا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {قالوا إن هؤلاء لضالون} يقول الله تعالى: {وما أُرسلوا} يعني الكفار {عليهم} أي: على المؤمنين {حافظين} يحفظون أعمالهم عليهم، أي: لم يُوَكَّلوا بحفظ أعمالهم {فاليوم} يعني: في الآخرة {الذين آمنوا من الكفار يضحكون} إذا رَأَوْهم يعذَّبون في النار.
قال أبو صالح: يقال لأهل النار وهم فيها: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا أقبلوا يريدون الخروج، غُلِّقت أبوابها دونهم.
والمؤمنون {على الأرآئك ينظرون} إلى عذاب عدوِّهم.
قال مقاتل: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذَّبون.
فيحمدون الله على ما أكرمهم به، فهم يكلِّمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق النار على أهلها، فتسد حينئذ الكوى.
قوله تعالى: {هل ثُوِّب الكفار} وقرأ حمزة، والكسائي، وهارون عن أبي عمرو {هل ثوب} بإدغام اللام.
أي: هل جوزوا وأُثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الإستفهام بمعنى التقرير. اهـ.